كان لتنامي عدد المؤسسات الصناعية منذ الانفتاح الاقتصادي وسياسات تشجيع جلب الاستثمار المباشر الأجنبي ومساندة الرأس المال الوطني للإسهام في التنمية الاقتصادية، كُلفة بيئية باهضة بدأت تبرز بداية من تسعينات القرن العشرين. لذلك سارعت الدولة في صياغة سياسات وقائية تحفظ التوازن البيئي، ثم علاجية ببعث صندوق مقاومة التلوث كآلية تحفز المؤسسات الصناعية المنتصبة على إزالة التلوث. غير أن موارده وتدخلاته لم تكن بحجم تحديات مشاكل التلوث التي أصبحت تعاني منها البلاد، فبانت هشاشته…
صندوق مقاومة التلوث هو حساب خاص في الخزينة، تأسس بمقتضى الفصول 35 إلى 37 من القانون عدد 122 لسنة 1992، المؤرخ في 29 ديسمبر 1992 المتعلق بقانون المالية لسنة 1993. يهدف إلى تشجيع المؤسسات على القيام بأعمال ترمي إلى إزالة كل مصادر التلوّث البيئي.
ويوضح المشرع مصطلح “التلوث” الذي يندرج ضمن تدخل الصندوق، بكونه كل ظاهرة ملوثة ناتجة “عن نشاط مؤسسات تصريف المياه المحمّلة بملوّثات تفوق النسب المحدّدة بالمواصفات الجاري بها العمل أو إفراز أدخنة أو غازات أو غبار أو نفايات صلبة”.
ينتفع بتدخلات الصندوق جميع المؤسسات المنتصبة ببلادنا والناشطة في مجالات الصناعة والفلاحة والخدمات، والتي دخلت طور الإنتاج منذ 5 سنوات على الأقل، باستثناء مؤسسات القطاع السياحي التي تنتفع بدورها باتفاقية تمويل أبرمها الصندوق مع ممول أجنبي، وهو البنك الألماني للتنمية (KFW).
وبصفة عامة، يتدخل الصندوق عن طريق المساهمة في تمويل:
ـ المشاريع الرامية إلى حماية البيئة من التلوّث الناتج عن نشاطها،
ـ المشاريع المستعملة للتقنيات النظيفة وذلك في حدود قيمة الاستثمار الرامي إلى حماية المحيط،
ـ مشاريع إحداث وحدات لتجميع وتثمين أو لتجميع وتحويل أو لتجميع ومعالجة النفايات،
ـ النظام العمومي لاستعادة النفايات البلاستيكية وتثمينها.
ويمكن للصندوق المساهمة في تمويل تجهيزات جماعية لإزالة التلوّث ينجزها متدخّلون عموميّون أو خواص لحساب عدد من المؤسسات التي تمارس نفس النشاط أو تفرز نفس التلوّث.
يمول الصندوق بـ:
– معلوم للمحافظة على البيئة يوظف على المنتجات الملوثة،
– اعتمادات من ميزانية الدولة،
– الهبات والقروض المسندة إلى الدولة التونسية بعنوان مقاومة التلوث،
– المبالغ المتأتية من إرجاع القروض المسندة من قبل الصندوق،
– الموارد المتأتية من مساهمات المنخرطين بمنظومة التصرّف في زيوت التشحيم المستعملة “إيكوزيت” ومنظومة المصافي الزيتية المستعملة “إيكوفلتر”،
– معلوم يتم دفعه عند إعادة تسجيل السيارات الخاصة المستعملة بمناسبة نقل الملكية،
– معلوم موظف على إتلاف كميات الملابس المستعملة الموردة.
اقتصر تمويل الصندوق منذ بداية نشاطه بصفة أساسية على موارد الدولة التونسية، وهو ما سبب ضعف تدخلاته وهشاشة وجوده على مدى عقد ونصف من الزمن. لذلك توقف عن النشاط سنة 2010 حالما أوقفت الدولة اعتماداتها. ولم يعد الصندوق إلى سالف نشاطه إلا بتوفر موارد مالية أجنبية سنة 2018 حيث سجل انطلاقة حقيقية بفضل ثلاث اتفاقيات خطوط تمويل أبرمتها الوكالة الوطنية لحماية المحيط المكلفة بالتصرف في الصندوق، مع البنك الألماني للتنمية الذي منح الصندوق مبالغ مالية قدرت بـ33,2 مليون يورو منها 17,9 مليون يورو بعنوان منحة وباقي المبلغ في شكل قروض لفائدة المؤسسات الصناعية.
كما تمكنت الوكالة من إبرام اتفاقية خط تمويل رابع مع نفس الممول الألماني بمبلغ 4 مليون يورو لمكافحة التلوث في المجال الصناعي، ثم عندما وسع الصندوق مجال تدخله ليشمل المؤسسات الفلاحية الملوثة كمعاصر الزيتون والمسالخ وغيرها، أبرمت الوكالة الوطنية لحماية المحيط خط تمويل خامس مع نفس الممول بقيمة 5 مليون يورو لهذا الغرض.
ودفعت هذه الدماء الجديدة التي جرت في شريان الصندوق، الوكالة الوطنية لحماية المحيط، إلى تنظيم يوم إعلامي بمدينة صفاقس يوم 15 فيفري 2019، حول تشجيعات صندوق مقاومة التلوث لفائدة المشاريع البيئية، تحت إشراف كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون المحلية والبيئة السيدة بسمة الجبالي التي قالت آنذاك إن الصندوق ساهم في إحداث أكثر من 180 وحدة تصرف في النفايات بقيمة 18 مليون دينار، وفي دعم مشاريع مقاومة التلوث الصناعي والهوائي والمائي لحوالي 230 مؤسسة صناعية بقيمة 14 مليون دينار منها تمويلات في شكل منح والبقية قروض ميسرة.
ولكن باستثناء هذه المناسبة التي توفرت فيها بعض المعطيات حول موارد الصندوق ونفقاته، تغيب الأرقام الدقيقة والمحينة حول الموارد المحققة والنفقات الموزعة، ولا تحضر سوى معطيات تقديرية إجمالية واردة في وثيقة ميزانية الدولة للوزارة المكلفة بشؤون البيئة وحماية المحيط.
فقد ورد في ميزانية وزارة الشؤون المحلية والبيئة لسنة 2024 (ص.21) أن مساهمة صندوق مقاومة التلوث بلغت 20 مليون دينار توزعت أنصافا بين تدخلات في الميدان الاقتصادي في شكل تشجيعات بعنوان حماية البيئة وإحداث وحدات تشجيع ورسكلة الفضلات (10 مليون دينار) ومنح للمؤسسات العمومية الخاضعة للنظام المحاسبي للمؤسسات بعنوان تدخلات لمؤسسات البيئة والتهيئة الترابية والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات (10 مليون دينار). وهي نفس التقديرات الواردة في ميزانية الوزارة المكلفة بالبيئة لسنة 2023 وفي ميزانية سنة 2022 (ص.20 وص.115و116). وفي موفى سنة 2023 بلغت الموارد المحققة لصندوق مقاومة التلوث 1081,971 مليون دينار، في حين لم تتجاوز المبالغ الموزعة من موارده 85,045 مليون دينار فقط وهو ما يمثل 7,87 بالمائة من مجموع الموارد.
وقد كانت نفقات الصندوق دون ذلك، حيث بلغت في ميزانية الوزارة المكلفة بالبيئة لسنة 2021 (ص.114) 17 مليون دينار. وهو نفس المبلغ (أي 17 مليون دينار) الذي استقر في ميزانية الوزارة لسنة 2020 (ص.116) وفي ميزانية الوزارة لسنة 2019 (ص.87) التي تحيل إلى نفس المبلغ في ميزانية الوزارة لسنة 2018 أيضا.
وفي غياب نشر دوري ومفصل لموارد ونفقات الصندوق، يحق لنا إبداء الملاحظات التالية:
أولا، رغم تحسن موارد الصندوق وتطور تدخلاته، إلا أنه وبالاعتماد على انخراط البلاد في التزامات وأهداف بيئية عالمية فإن المهام الكبرى المنوطة بعهدته، تتطلب توفير مزيد الاعتمادات والموارد الداخلية والخارجية لتمويل انخراط المؤسسات الخاصة والعمومية في المجهود الوطني لمقاومة تلوث المحيط الطبيعي وحفظ حقوق الأجيال المقبلة في بيئة سليمة.
ثانيا، ينبغي على الدولة توفير المعلومات بصفة استباقية حول موارد الصندوق ونفقاته ومشاريعه المستقبلية، كخطوة أساسية نحو الشفافية وحوكمة التصرف فيه.
ثالثا، ينبغي تشريك جميع الأطراف المعنية بالشأن البيئي وحوكمته في عملية التصرف في الصندوق والتي تشمل ممثلي المجتمع المدني الناشطين في المجال البيئي والمستثمرين والمهنيين والخبراء المختصين…