مبدأ التّدبير الحرّ وآثاره على تمويل ميزانيّة الجماعات المحليّة
11 avril 2021
أيّة حريّة للمجالس البلديّة المنتخبة في تحديد مواردها الذّاتيّة حريّة ضبط المعاليم البلديّة: بين النّظري والواقع
18 avril 2021

الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة للبلديات بين متطلبّات الحوكمة وإكراهات الواقع

 

الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة للبلديات بين متطلبّات الحوكمة وإكراهات الواقع

 

 

منذ اندلاع ثورة 14 جانفي 2011، طالب التّونسيون والتّونسيات خاصّة بالعدالة الاجتماعيّة بهدف التّنمية الشاملة. وسعيا الى تحقيق هذا المطلب نصّ دستور27 جانفي 2014 على جملة من المبادئ التي تكرّس النّظام الديّمقراطي، حيث خصّ الدّستور المشار اليه أعلاه السّلطة المحلية بباب سابع يتضمّن 12 فصلا أطلق عليه اسم “باب السّلطة المحليّة” وبالتّالي تم القطع، على مستوى الدّستور الجديد، مع النّظام المركزيّ حسب دستور 1959 والذي لم يخصّص للجماعات المحليّة سوى فصل يتيم.

 

وفي إطار إرساء العدالة الاجتماعيّة بهدف تحقيق تنمية شاملة على المستوى المحلي نصّ الدّستور على أنّ السّلطة المحليّة تقوم على أساس اللاّمركزيّة أي بوجود جماعات محليّة بثلاثة مستويات تمّ التّنصيص عليها صراحة بالدّستور (البلديات، الجهات والأقاليم). ويمكن إحداث مستوى رابع بمقتضى القانون عند الاقتضاء.

وطبقا للفصل 132 من الدّستور تتمتّع الجماعات المحليّة بالشّخصية القانونيّة، وبـالاستقلاليّة الإداريّة والماليّة في إطار وحدة الدّولة، وتدير المصالح المحليّة وفقا لمبدأ التّدبير الحرّ.

ويمكن تعريف الشّخصيّة القانونيّة التي تمّ تكريسها بالدّستور بأنّها إمكانية التّعبير القانوني عن مصالح شرعيّة يمكن بمقتضاها الإلزام والالتزام بحيث يمكن لصاحب الشّخصيّة القانونيّة البيع والشّراء والكراء وامتلاك ذمّة ماليّة وكذلك التّقاضي.

و تمّ تكريس مبدأ الاستقلاليّة الماليّة للجماعات المحليّة على مستوى مجلّة الجماعات المحليّة الصّادرة بالقانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 المؤرخ في 9 ماي 2018، في عديد الفصول ندكر منها الفصول 2 و 38 و 61 و 200 و 293 و 356 باعتبار أنّ من متطلبات إرساء اللاّمركزية وحوكمتها هو تدبير الشّأن المحلي وفقا لنظام مالي مستقل.

 إلاّ أنّه بعد مضي عديد السّنوات منذ صدور دستور 2014 في مرحلة أولى وصدور مجلّة الجماعات المحلية في مرحلة ثانية، اتّضح أنّ استقلالية النّظام المالي للبلديات يواجه إكراهات الواقع إذ لم يتم اعتماده إلاّ بصفة نسبيّة.

سيتطرّق المقال إلى موضوع الاستقلاليّة الماليّة للبلديات: متطلّبات الحوكمة وإكراهات الواقع.  

 

I –  مبررّات الاستقلالية المالية للبلديات

 

يشكّل النّظام المالي على المستوى المحلّي بعدا أساسيّا من أبعاد السّلطة المحليّة ومعيارا أساسيا لقياس مدى تطوّر ونضج النّظام اللاّمركزي الذي جاء به دستور 2014. وتبدو إذا الاستقلاليّة الماليّة أحد أهم مقوّمات اللاّمركزيّة. فالموارد الماليّة هي وسيلة ضروريّة لتمويل النّفقات وتوفير الخدمات للمواطنين والمواطنات، وبالتّالي تحقيق أهداف الثّورة مثلما تمّت الإشارة إليه أعلاه. كما تلعب الموارد الماليّة دورا هاما في تحقيق البرامج الاقتصاديّة لتحقيق التّنمية المحليّة. 

 

II – ترتيب ماليّة البلديات

 تعدّ ماليّة البلديات فرعا أساسيّا من فروع الماليّة العموميّة إذ تتلاقى معها في عدّة مستويات منها المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمحاسبي.

 فعلى المستوى الاقتصادي تمثّل الماليّة المحليّة أداة للتّأثير على الحياة الاقتصاديّة للجماعات المحليّة. وعلى المستوى الاجتماعي فهي أداة لتحقيق أهداف اجتماعيّة. أمّا على المستوى المحاسبي فهي تخضع لعدة ضوابط وتمرّ بعدّة مراحل يصطلح عليها بدورة الميزانية على المستوى المحلّي. كما أنّها أداة ترخيص وأداة تقدير شأنها شأن الماليّة العمومية.  إلا أنّ ماليّة البلديات لم تكن تحتلّ مكانة هامة بالرّغم من أنّها من فروع الماليّة العموميّة نظرا لوجود خطأ سائد يتمثّل في الخلط بين ماليّة الدّولة والماليّة العموميّة ويحصر الماليّة العموميّة في حدود الدّولة دون سواها. 

III – مفهوم الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة  للبلديات

 رغم أهميّة هذه الاستقلاليّة الماليّة، نلاحظ أنّ التّشريعات المذكورة أعلاه المتعلّقة باللاّمركزية لم تقدم أي تعريف لمفهوم للاستقلاليّة الماليّة والإداريّة. وإنّما اقتصرت النّصوص المذكورة على ذكر العبارة المتعلّقة بالشّخصيّة المعنويّة والاستقلال المالي والإداري دون أي تفصيل لهذا الاستقلال ولا تحديد لمجالاته.

ونلاحظ أنّ هذا السّهو موجود على مستوى التّشريع المغربي 1 وكذلك التّشريع الجزائري..

وأمام عدم وجود تعريف دقيق لاستقلاليّة البلديات المالية نحاول أن نعرّف بهذا المفهوم في مرحلة أولى. ثم نبيّن أهم الأسس والمقوّمات التي تقوم عليها هذه الاستقلاليّة في مرحلة ثانية.

 

إنّ كلمة إستقلاليّة (Autonomie) المشتقّة من اليونانية تعني من يسير ذاتيا بواسطة قوانيه الخاصّة به (Autonomia – Automos).

 وفي المفهوم العام تتمثّل الاستقلاليّة المالية في الوسائل والأساليب الماليّة التي توضع تحت تصرّف جماعة محلية ما، وهي  بالتّالي حجر الزّاوية الذي تقوم عليه اللاّمركزية. كما يمكن اعتبار الاستقلالية المالية تعني أنّ للجماعات المحلية موارد مالية خاصّة بها وهي التي تتحكّم في مصدرها وكيفية تحصيلها وجمعها. كما تتمتّع بحرية تامّة في استعمال هذه الموارد وتخصيصها حسب ما تراه مناسبا لتحقیق المصالح المحلية.

وحسب الأستاذ عوابدي عمار 2 فإنّ “استقلاليّة الجماعات المحليّة تقوم على تقسيم إقليم الدّولة إلى وحدات تتمتّع بالشّخصيّة المعنويّة تتولّى إدارة شؤونها هيئات محليّة منتخبة بمقدورها اتّخاذ القرارات التي تخدم مصالحها بنفسها وبحرية. أمّا الدكتور محمد أنس قاسم جعفر  3 فيضيف  إلى ذلك ” ضرورة أن تتمتع الجماعات المحليّة بالاستقلال المالي و الذي لن يكون إلاّ بوجود موارد ذاتيّة و كافية تسمح لها بممارسة صلاحياتها و ممارسة و إدارة شؤونها”.

و في نفس الإطار يضع الأستاذ Pierre Lalumière  4 ثلاثة  مؤشّرات أساسيّة لتأسيس الاستقلال المالي للجماعات المحلية  وهي:

 – 1 –  خصّ الجماعات المحليّة بمصادر تمويل أساسيّة تمكّنها من تمويل تدخلاتها وأنشطتها التّنموية.

 – 2 –   تمكين الجماعات المحليّة من حريّة تحديد مواردها ونفقاتها.

 – 3 –  إلغاء الرّقابة القبلية على أعمال الجماعة ، وتكريس الرّقابة البعديّة.

وبناء على كل ما تقدّم يمكن القول إنّه يقصد بالاستقلاليّة الماليّة، تمكين البلديات (أي الجماعات المنتخبة) من ميزانية خاصّة تموّل بصفة أساسيّة عن طريق الجباية المحليّة ومداخيل الملك العمومي الرّاجع لتلك الجماعات وموارد ماليّة ذاتيّة تتحكّم في قواعد استعمالها من أجل تحقيق المصلحة العامّة بالمجال التّرابي الرّاجع بالنّظر للبلديّة  دون تدخّل من الدّولة أو  ممثّلها على المستوى الجهوي.

 IV – أهمية الاستقلال المالي

إنّ نجاح اللاّمركزية لا يتوقّف على منح المجالس المنتخبة ثلاثة أنواع من الصّلاحيات (صلاحيات ذاتيّة، صلاحيات مشتركة وصلاحيات منقولة)، بل يستوجب ذلك تمكينها من الوسائل الماديّة والبشريّة الفعليّة اللازّمة لتسييرها، لأنّ أي عملية لتوسيع أو نقل الصّلاحيات دون إعادة توزيع الوسائل الماديّة بين الدّولة والجماعات المحليّة بشكل مواز، سيؤدي حتما إلى نقل صلاحيات صوريّة ونظريةّ ولا يمكن تحقيق الاستقلال الإداري إلاّ بتوفّر الاستقلال المالي. 

وقد تمّ تعزيز مكانة الجماعات المحليّة في الدّستور التّونسي لسنة 2014 وكذلك في مجلة الجماعات المحليّة، بتكريس مجموعة من المبادئ الحديثة والعصرية كمبدأ التّدبير الحر 5 بهدف ضمان حماية الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة للجماعات اللاّمركزيّة.

وقد كرّس دستور 2014 هذه الاستقلاليّة في بعديها المالي والإداريّ ویدل ذلك على جرأة كبيرة من قبل المشرّع بالرّغم من وجود عدة نقائص. فهذا المبدأ كان غائبا في الدّستور التّونسي لسنة 1959. كما أنّه غير موجود في بعض الدّساتير الدّيمقراطية بالرّغم من عراقة التّجربة اللاّمركزيّة فيها. فالدّستور الفرنسي مثلا لم ينص صراحة على الاستقلالية المالية للجماعات المحلية.

فإذا كانت التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة على المستوى المحلّي هي غاية في حدّ ذاتها، فإنّ الاستقلال المالي المحلّي يشكّل الوسيلة التي تستند عليها الجماعة لتمويل تدخّلاتها الاقتصاديّة، وعليه فإنّ نجاح الانتقال الدّيمقراطي يبقى رهين الاستقلال المالي للجماعة المحليّة. فهو أداة تموّل وتنفذ بها السّياسات والمشاريع التّنموية، وتترجم به المجالس المنتخبة برامجها السّياسيّة على الواقع الملموس لتحقيق التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة.  فالموارد الذّاتيّة سواء الجبائيّة وغير الجبائيّة تعتبر إحدى الرّكائز الأساسيّة في تمويل الميزانيّة المحليّة وتحقيق الاستقلال المالي المحلّي.

 

V – تجليّات الاستقلاليّة الماليّة حسب التّشريع التّونسي

 

لا شكّ  في أنّ الاستقلال الماليّ هو رهين استقلاليّة الموارد الماليّة. كما أنّ الاعتراف للجماعات المحلية بالشّخصيّة المعنويّة لا يكفي للحديث عن وجود لامركزيّة حقيقيّة، قادرة على الاستجابة لمتطلبات إدارة القرب وتحقيق التّنمية. ولكن اللاّمركزية الفعليّة تتحقق عندما تكون للجماعات المحليّة ميزانيّة مستقلّة تموّل بموارد ماليّة ذاتيّة وخاصّة تعدّها وتنفّذها المجالس المنتخبة.

ويبدو من خلال دراسة التّشريع التّونسي أنّ الاستقلاليّة الماليّة للبلديات مازالت دون المأمول بالمقارنة مع حجم الصلاحيات المنوطة بعهدة البلديات وانتظارات المواطنين والمواطنات من إرساء النّظام اللاّمركزي، فكيف يتجلّى ذلك؟

لقد تمّ إقرار مبدأ الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة على مستوى الفصل 2 من مجلّة الجماعات المحليّة تكريسا للمبدأ الدّستوري. وهو خيار منطقيّ ولا رجعة فيه بما أنّه يعد من أبرز عوامل نجاح منظومة اللاّمركزيّة. ولكن عديد الأحكام الواردة تباعا بالمجلّة المذكورة أساسا وبنصوصها التّطبيقيّة تحدّ نسبيّا من هذه الاستقلاليّة سواء في جانبها المالي أم الإداري. ويتجلّى ذلك خاصة على مستوى:

◼︎   الفصل 8  من مجلّة الجماعات المحليّة الذي ينص على أنّ “السّلطة المركزيّة تعمل على تعزيز الموارد الذّاتيّة للجماعات المحليّة ممّا يضمن تكافؤ الموارد والأعباء”.

◼︎  الفصل 131 من مجلّة الجماعات المحليّة الذي ينص على تكفّل الدّولة تدريجيا، وبواسطة قوانين الماليّة والقوانين الجبائيّة والقوانين المتعلقّة بالأملاك، بجعل الموارد الذاتية تمثّل النّصيب الأهمّ لموارد كلّ جماعة محليّة. وتلتزم السّلطة المركزيّة بمساعدة الجماعات المحليّة على بلوغ التّكافؤ بين الموارد والأعباء إلّا أنّ الفصل 132 عدّد حصريّا الموارد الذّاتيّة للبلديات ممّا يعيق البلدية للارتقاء بمواردها الذّاتيّة إلى المستويات المشار اليها بالفصل 131 وبالتّالي يحدّ من استقلاليتها الماليّة.

◼︎   الفصل 134 من مجلّة الجماعات المحليّة إذ ينصّ الفصل المذكور على أنّه تخصّص موارد الاقتراض وجوبا لتمويل استثمارات الجماعات المحليّة ولا يجوز الاقتراض لتمويل ميزانية التّصرّف. أمّا الفصل 135 فقد ضبط سقف نفقات التّأجير في حدود 50 بالمائة من العنوان الأول للسّنة المنقضية ممّا يؤثّر حتما على حوكمة الموارد البشريّة ويتعارض مع مبدأ الاستقلاليّة.

◼︎  ويضيف الفصل 135 نفسه ضرورة ألاّ يتجاوز حجم التّسديد السّنوي لأصل دين الجماعة المحلّية في كلّ الحالات، وباعتبار القروض المزمع تعبئتها خلال السّنة، سقفا يساوي 50 بالمائة من مبلغ ميزانية التّصرّف للسّنة السّابقة لسنة إعداد الميزانيّة.

◼︎  كما أجبر الفصل  نفسه الجماعات المحليّة بضرورة ترسيم الاعتمادات المناسبة لتغطية النّفقات الاجباريّة وهي:

• 1  مصاريف التّأجير العمومي، بما في ذلك المبالغ المخصومة بعنوان الضّرائب والمساهمات الاجتماعيّة، خلاص أقساط القروض المستوجبة أصلا وفائدة. 

• 2 •  خلاص المستحقّات المستوجبة.

• 3 •  مصاريف التّنظيف وتعهد وصيانة الطّرقات والأرصفة ،  وشبكة التّنوير العمومي وقنوات التّطهير وتصريف المياه والمناطق الخضراء.

• 4 • مصاريف حفظ العقود والوثائق والأرشيف التّابع للجماعة المحليّة.

• 5 •  مصاريف صيانة مقر الجماعة المحلية ومختلف بناياتها ومنشآتها،

• 6 •  جميع المصاريف المحمولة على الجماعة المحلية والمتعلّقة بمجال اختصاصها بمقتضى النّصوص التّشريعيّة الجاري بها العمل.

 وفي الختام يمكن القول إنّه بالرّغم من مبدأ الاستقلاليّة الماليّة والإدارية للبلديات والجماعات المحلية بصفة عامة المنصوص عليه في عديد الفصول من المجلة إلاّ أنّ المشرّع تدخّل، بواعز الحوكمة، في فصول أخرى ليضبط حدود أو مقاييس إنفاق يتعيّن على الجماعة المحلية احترامها بالرّغم من مساسها بمبدأ الاستقلاليّة .كما نلاحظ أنّ المشرّع أعطى للجنة العليا للماليّة المحليّة المحدثة بمقتضى الفصل 61 من المجلة  صلاحيات موسّعة في الجانب المالي المحلّي. إذ تنظر في كلّ المسائل المتعلّقة بالماليّة المحلية ممّا من شأنها الحدّ من الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة للجماعات. 

 

 
 
 

 

عائشة قرافي
حرم الحصني

مستشارة اختصاص حوكمة ومكافحة الفساد

 

 

 

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *