تمثل صناديق الخزينة أحد أهم موارد المالية العمومية وأحد أبرز الآليات التي تعتمدها الدولة لتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية. تتأتى مواردها أساسا من الاعتمادات التي تخصصها لها ميزانية الدولة في إطار قانون المالية، ومن المبالغ المستخلصة من القروض التي تسندها ومن هبات الذوات العمومية والخاصة ومن أية موارد أخرى..
تتنوع صناديق الخزينة، فتشمل “الصناديق الخاصة” و”الحسابات الخاصة”، و”خطوط التمويل” و”أموال المشاركة”. تشترك هذه الصناديق وظيفيا، في استخدام الدولة مواردها بهدف تمويل برامج أو قطاعات محددة تحتاج دعما لرفع قدرتها التنافسية. ولكنها مع ذلك تختلف فيما بينها من ناحية ميزانيتها ومصادر تمويلها وطرق التصرف فيها…
ورغم مواردها المالية الهامة والدور الموكول إليها في تنمية القطاعات الاقتصادية الحساسة، ظلت صناديق الخزينة يلفها الغموض. حيث لم يقع تناول أهميتها الاقتصادية في تحاليل الخبراء الاقتصاديين وخبراء المالية العمومية ضمن الملفات والبرامج التي يبثها الإعلام الوطني وفي تقارير الصحفيين التونسيين وتغطياتهم المخصصة لمناقشة مشروع قانون المالية ولنقل المداولات المتعلقة بميزانية الدولة. لذلك سوف تعمل الجمعية التونسية للحوكمة الجبائية على تغطية هذا النقص من خلال العمل على التعريف بها وتبسيط مفاهيمها وتفسير طرق عملها لغير المشتغلين بمجالات والمالية العمومية أو المحاسبة العمومية والنشاط الضريبي. لذلك عملت ما في وسعها من أجل تبسيط المادة وتقريبها من أذهان العموم، وذلك بتعريف المفاهيم الأساسية للمالية العمومية، كالميزانية وصناديق الخزينة وحسابات الخزينة وخطوط التمويل، ويحدوها أمل في أن يتوصل الجمهور إلى فهمها وحسن تلقيها حتى يستطيعوا التفاعل الايجابي مع كبرى الإشكاليات والتساؤلات التي تثار في أذهانهم…
مبدئيا، تمثل صناديق وحسابات الخزينة وخطوط التمويل وغيرها من مكونات المالية العمومية استثناءا لمبدإ وحدة ميزانية الدولة الذي أقره الفصل 11 من القانون الأساسي عدد 15 لسنة 2019 مؤرخ في 13 فيفري 2019 المتعلق بالميزانية الذي ينص على ما يلي: “تدرج موارد الدولة وتكاليفها في الميزانية بمبالغها الجملية والخام دون مقاصة بينها وتستعمل جملة موارد الدولة لتسديد جملة تكاليفها. غير أنه يمكن:
توظيف مداخيل لتغطية نفقات معينة بواسطة الحسابات الخاصة والصناديق الخاصة والمؤسسات العمومية الملحقة ميزانياتها ترتيبيا بميزانية الدولة”.
وبشيء من التبسيط، يتجسد مبدأ وحدة الميزانية في الفقرة الأولى من منطوق الفصل المذكور، حيث يقتضي أن تتضمن ميزانية الدولة بابا لجملة مبالغ الموارد المالية وبابا لجملة المبالغ المالية المخصصة لتسديد مجموع نفقاتها. ولكن المشرع أدخل استثناءات على هذا المبدأ وخصص مداخيل مالية من أجل توظيفها لتغطية نفقات معينة تدخل ضمن تنفيذ السياسات العامة للدولة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويتم ذلك “بواسطة الحسابات الخاصة والصناديق الخاصة والمؤسسات العمومية الملحقة ميزانياتها ترتيبيا بميزانية الدولة”.
وقبل محاولة فهم الإشكاليات الكبرى التي تطرحها صناديق والحسابات الخزينة بأنواعها، نحاول تعريفها والإشارة إلى أهم الفروق التي تميز بعضها عن بعض في خصوص طرق بعثها وأساليب تسييرها ومجالات تدخلها.
يتم إحداث “الصناديق الخاصة”(Fonds spéciaux) في إطار قانون المالية الأصلي أو التعديلي، وتتميز بمحدودية نفقاتها. أما مواردها المالية، فتتأتى من مبالغ تسديد الديون. وتسوسها نفس القواعد العامة المتعلقة بالتصرف في المال العام.
ويتم بعث “الحسابات الخاصة (Comptes spéciaux)، تماما كالصناديق الخاصة بأحكام قانون المالية الأصلي او التعديلي، غير أنها تتميز عنها في مستوى مصادرها المالية التي تتأتى من موارد جبائية وغير جبائية، وفي مستوى نفقاتها التي تتميز بصبغة تقديرية تمكن اللجنة المكلفة بتسييرها تحت إشراف الوزير المعين آمرا للصرف، من الترفيع فيها خلال السنة المالية المعنية في حدود الموارد المالية المحصلة بشرط مصادقة وزير المالية فقط، دون عرضها على مجلس النواب.
أما “أموال المشاركة” (Fonds de concours)، فيتم بعثها كبقية الصناديق والحسابات، غير ان مواردها المالية، تتأتى من المساهمات التطوعية للذوات الطبيعية والذوات المعنوية الخاصة والعمومية. وتخصص مواردها لتغطية نفقات محددة. ويبدو هذا التخصيص أيضا، استثناءا لمبدأ “شمولية ميزاينة” الدولة (Universalité budgétaire) الذي يتفرع عنه مبدأ “عدم تخصيص” مداخيل لنفقات معينة (Principe de non affectation).
وفي كل الأحوال، تقتضي قاعدة “التخصيص” احترام نية المشارك في إنفاق أمواله في الأوجه المحددة التي قصدها فقط دون غيرها. وفي أغلب الأحيان، يقع تخصيص هذه الأموال المشاركة، للقيام بمشاريع البنية التحتية الكبرى المُكلفة جدا كإصلاح الطرقات السيارة وبناء الجسور ومد الطرقات أو بناء وتعهد مراكز الصحة العمومية وغيرها.
ويتم بعث “خطوط التمويل” (Lignes de crédit)، أيضا كبقية الصناديق والحسابات، غير أن مواردها المالية، تتأتى من الاعتمادات التي ترصدها لها ميزانية الدولة ومن موارد أخرى، وتخصص لتمويل انجازات معينة لفترة زمنية محدودة. وهي في الواقع، مبالغ تضعها الدولة عادة، على ذمة المؤسسات الاقتصادية بطرق الإقراض. فتمكن المؤسسة المقترضة من استعمال مبالغ القرض في حدود السقف المتفق عليه في كل وقت وحين، لاستغلالها في تنمية نشاطاتها الاقتصادية والتجارية. ويمكن أن تتمتع نفس المؤسسة المقترضة بتمويلات جديدة بشرطين اثنين: إذا كان خط التمويل مفتوحا وإذا تمكنت الجهة المقترضة من خلاص مبالغ القرض. وهو ما يجعل طريقة التصرف في هذه الأموال تمتاز بكثير من الليونة.
وفي إطار نشاط الجمعية التونسية للحوكمة الجبائية، أنجزت السيدة عائشة قرافي خبيرة في المالية العمومية، دراسة حول صناديق الخزينة، قدمت أهم نتائجها خلال ورشة عمل أولى نظمتها الجمعية بتونس العاصمة في 2 مارس2024. فقد ضبطت خلالها ما يعادل 62 صندوق وحساب خزينة وقامت بتقسيمها إلى خمس مجموعات بحسب طبيعة النشاط ومجال التدخل، كما يلي:
صنف أول، يضم “الصناديق الخاصة لدعم القطاع الصناعي والفلاحة والبيئة والخدمات”، وفيه اثني عشرة (12) صندوقا.
صنف ثان، يشمل “الصناديق الخاصة لدعم التشغيل واللامركزية” وفيها ثمانية صناديق (8).
صنف ثالث، يضم “الصناديق الخاصة لدعم القطاع الاجتماعي” وعددها عشرة (10) صناديق.
صنف رابع، يشمل “صناديق خاصة مختلفة” ويضم اثني عشرة (12) صندوقا.
صنف خامس، يضم “الموارد الجبائية لفائدة بعض المؤسسات الوطنية” ويغطي عشرين (20) صندوقا.
ثم أبدت على ضوء ذلك، مجموعة من الملاحظات:
تتمثل الملاحظة الأولى، في سهولة إحداثها بقانون المالية ولكن تشدد في المقابل على صعوبة غلقها.
وتتمثل الملاحظة الثانية في صعوبة تناول موضوع صناديق الخزينة والإحاطة بمختلف جوانبه بسبب تشتت النصوص القانونية وصعوبة ضبطها وتتبع التعديلات التي طرأت عليها وعدم نشر النصوص الترتيبية المنظمة لسير نشاطها.
وتتمثل الملاحظة الثالثة في ليونة التصرف في مواردها خارج أطر ميزانية الدولة. وهي مسألة اعتبرها بعض المتدخلين من أهم مزايا هذه الآليات التي توفر تمويلات عمومية سريعة لقطاعات اقتصادية واجتماعية حساسة أو مشاريع تتطلب حلولا عاجلة. ومع ذلك، حذر البعض الآخر من احتمال حدوث آثار سلبية على المال العام حين يقع التصرف فيها خارج الأطر الرقابية للميزانية العامة للدولة. وهو ما قد يؤدي إلى حدوث مخاطر عديدة كعدم استغلال أموالها الاستغلال الأمثل بحسب الأهداف التي حددها لها المشرع سلفا، وكعدم الاستدامة المالية وخطر تراكم الديون غير المستخلصة وتفشي التعقيدات الإدارية والمالية مما يناقض الأهداف التنموية التي أحدثت من أجلها.
ومن جهة أخرى، أشارت دراسة حول الصناديق الخاصة قامت بها ثلاث وزارات، وهي الاقتصاد والمالية والنهوض بالاستثمار صدرت سنة 2021 (Rapport sur l’activité des Ministères de l’Economie, des Finances et de l’Appui à l’Investissement – Fonds Spéciaux pour l’année 2021) إلى أن الصناديق الخاصة للخزينة، فضلا عن مواصلة دورها الأساسي في تمويل الاستثمار والتشجيع على بعث المؤسسات ورفع المقدرة التنافسية، يُنتظر أن تلعب دورا مركزيا آخر في تمويل آليات ضمان المخاطر الناجمة عن التغييرات المناخية التي عرفتها البلاد التونسية منذ سنوات وتسببت في الجفاف والفياضانات، التي انجر عنها ضعف المحاصيل الزراعية وصعوبة التصدير وتراجع تربية الماشية. كما ينتظر منها تمويل المخاطر الناجمة عن عجز باعثي المشاريع الجدد وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة عن تسديد قروضهم البنكية، خاصة في المجال الفلاحي بسبب تناقص مداخيلهم ومردودية أنشطتهم…